فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن القيم:

تأمل خطاب القرآن تجد ملكا له الملك كله وله الحمد كله أزمة الأمور كلها بيده ومصدرها منه ومرادها إليه مستويا على سرير ملكه لا تخفى عليه خافية في أقطار مملكته عالما بما في نفوس عبيده مطلعا علي أسرارهم وعلانيتهم منفردا بتدبير المملكة يسمع ويرى ويعطي ويمنع ويثيب ويعاقب ويكرم ويهين ويخلق ويرزق ويميت ويحيي ويقدر ويقضي ويدبر الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها وصاعدة إليه لا تتحرك في ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه فتأمل كيف تجده يثني على نفسه ويمجد نفسه ويحمد نفسه وينصح عباده ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم ويرغبهم فيه ويحذرهم مما فيه هلاكهم ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته ويتححب إليهم بنعمه وآلائه فيذكرهم بنعمه عليهم ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها ويحذرهم من نقمه ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن اطاعوه وما أعد لهم ما العقوبة إن عصوه ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم ويذم أعداءه بسئ أعمالهم وقبيح صفاتهم ويضرب الأمثال وينوع الأدلة والبراهين ويجيب عن شبه أعدائه أحسن الأجوبة ويصدق الصادق ويكذب الكاذب ويقول الحق ويهدي السبيل ويدعو إلى دار السلام ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها ويحذر من دار البوار ويذكر عذابها وقبحها وآلامها ويذكر عباده فقرهم إليه وشدة حاجتهم إليه من كل وجه وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين ويذكر غناه عنهم وعن جميع الموجودات وأنه الغنى بنفسه عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه بنفسه وأنه لا ينال أحد ذرة من الخبر فما فوقها إلا بفضله ورحمته ولا ذرة من الشر فما فوقها إلا بعدله وحكمته ويشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب وأنه مع ذلك مقيل عثراتهم وغافر زلاتهم ومقيم أعذارهم ومصلح فسادهم والدافع عنهم والمحامي عنهم والناصر لهم والكفيل بمصالحهم والمنجي لهم من كل كرب والموفي لهم بوعده وأنه وليهم الذي لا ولى لهم سواه فهو مولاهم الحق ونصيرهم علي عدوهم فنعم المولى ونعم النصير فإذا شهدت القلوب من القرآن ملكا عظيما رحيما جوادا جميلا هذا شانه فكيف لا تحبه وتنافس في القرب منه وتنفق أنفاسها في التودد إليه ويكون أحب إليها من كل ما سواه ورضاه آثر عندها من رضا كل ما سواه وكيف لا تلهج بذكره ويصير حبه والشوق إليه والأنس به هو غذائها وقوتها ودواؤها بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنفع بحياتها. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
أي: لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه.
قال الرازي: يحتمل أن يكون هذا ابتداء خبر من الله. ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين بأنهم قالوا: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} على نسق الكلام في قوله: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}. وقالوا: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا} فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح. وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
ثم قال الرازي: في كيفية النظم: إن قلنا: إن هذا من كلام المؤمنين، فوجه النظم أنهم لما قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} فكأنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا. فإذا كان هو تعالى، بحكم الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين. وإن قلنا: إن هذا من كلام الله تعالى، فوجه النظم أنهم لما قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ثم قالوا بعده: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا}، دل ذلك على أن قولهم: {غُفْرَانَكَ}، طلب للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد. فملا كان قولهم غفرانك، طلب للمغفرة في ذلك التقصير، لا جرم خفف الله تعالى ذلك عنهم. وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}. والمعنى: أنكم إذا سمعتم وأطعتم، وما تعمدتم التقصير، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه، فإن الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}. وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم: غفرانك ربنا.
قال زين العابدين بير محمد درة في المدحة الكبرى: وعلى احتمال أن يكون قوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ} الخ حكاية، فهو من قبيل العطف بلا عاطف. أو الكلام على تقدير قالوا. قال بعضهم: ولك أن تجعل: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ} الخ في حيز القول. وأن يكون حكاية للأقوال المتفرقة غير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين، يكون مدحًا لهم بأنهم شاكرون لله تعالى في تكليفه. حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم. وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير، بل هو لهم، ولا يتضرر بعملهم الشر، بل هو عليهم.
وقال البقاعي: وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلبًا للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه من ذلك، خوفًا من أن يكلفوا بما لله تعالى، أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس، لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه.
ولعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم. ومن صفات الحلم والرحمة ما يرفه عنهم. ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله تعالى جزاء لهم على قولهم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، الآية. فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس. فانتفى ما شق عليهم من قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ}، الآية. بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم: سمعنا وعصينا؛ من الآصار في الدنيا والآخرة. فيكون حينئذ استئنافًا جوابًا لمن، كأنه قال: هل أجاب دعائهم؟!. ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستنتاج بقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} قال العلامة أبو السعود: قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} الخ. للترغيب في المحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها، ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير تتضمن مراعاته منفعة زائدة، وأنها تعود إليها لا إلى غيرها. ويستتبع الإخلال به مضرة تحيق بها لا بغيرها. فإن اختصاص المنفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله. واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته. أي: لها ثواب ما كسبت من الخير الذي كلفت فعله، لا لغيرها. وعليها لا على غيرها عقاب ما اكتسبت من الشر الذي كلفت تركه. وإيراد الاكتساب في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشئ من اعتناء النفس بتحصيل الشر وسعيها في طلبه.
قال الحرالي: وصيغة فَعَلَ مجردة، تعرب عن أدنى الكسب، فلذلك من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة.

.قال الفخر:

لقائل أن يقول: دلّت الدلائل العقلية والسمعية على أنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، فما السبب في أن شدد التكليف على اليهود حتى أدى ذلك إلى وقوعهم في المخالفات والتمرد، قالت المعتزلة: من الجائز أن يكون الشيء مصلحة في حق إنسان، مفسدة في حق غيره، فاليهود كانت الفظاظة والغلظة غالبة على طباعهم، فما كانوا ينصلحون إلا بالتكاليف الشاقة والشدة، وهذه الأمة كانت الرقة وكرم الخلق غالبًا على طباعهم، فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ.
أجاب الأصحاب بأن السؤال الذي ذكرناه في المقام الأول ننقله إلى المقام الثاني فنقول: ولماذا خص اليهود بغلظة الطبع، وقسوة القلب ودناءة الهمة، حتى احتاجوا إلى التشديدات العظيمة في التكاليف ولماذا خص هذه الأمة بلطافة الطبع وكرم الخلق وعلو الهمة حتى صار يكفيهم التكاليف السهلة في حصول مصالحهم.
ومن تأمل وأنصف علم أن هذه التعليلات عليلة فجل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23]. اهـ.
وقال الفخر:
من الأصحاب من تمسك به في أن تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزًا لما حسن طلبه بالدعاء من الله تعالى.
أجاب المعتزلة عنه من وجوه:
الأول: أن قوله: {مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي يشق فعله مشقة عظيمة وهو كما يقول الرجل: لا أستطيع أن أنظر إلى فلان إذا كان مستثقلًا له.
قال الشاعر:
إنك إن كلفتني ما لم أطق ** ساءك ما سرك مني من خلق

وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المملوك: «له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق» أي ما يشق عليه، وروى عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المريض يصلي جالسًا، فإن لم يستطع فعلى جنب» فقوله: فإن لم يستطع ليس معناه عدم القوة على الجلوس، بل كل الفقهاء يقولون: المراد منه إذا كان يلحقه في الجلوس مشقة عظيمة شديدة، وقال الله تعالى في وصف الكفار {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} [هود: 20] أي كان يشق عليهم.
الوجه الثاني: أنه تعالى لم يقل: لا تكلفنا ما لا طاقة لنا به، بل قال: {لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} والتحميل هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمله فيكون المراد منه العذاب والمعنى لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله فلو حملنا الآية على ذلك كان قوله: {لا تُحَمّلْنَا} حقيقة فيه ولو حملناه على التكليف كان قوله: {لا تُحَمّلْنَا} مجازًا فيه، فكان الأول أولى.
الوجه الثالث: هب أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم بما لا قدرة لهم عليه لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلافه، لأنه لو دل على ذلك لدل قوله: {رَبّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] على جواز أن يحكم بباطل، وكذلك يدل قول إبراهيم عليه السلام {وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] على جواز أن يخزي الأنبياء، وقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 48] ولا يدل هذا على جواز أن يطيع الرسول الكافرين والمنافقين وكذا الكلام في قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] هذا جملة أجوبة المعتزلة.
أجاب الأصحاب فقالوا:
أما الوجه الأول: فمدفوع من وجهين:
الأول: أنه لو كان قوله: {وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} محمولًا على أن لا يشدد عليهم في التكليف لكان معناه ومعنى الآية المتقدمة عليه وهو قوله: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} واحدًا فتكون هذه الآية تكرارًا محضًا وذلك غير جائز الثاني: أنا بينا أن الطاقة هي الإطاقة والقدرة، فقوله: {لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ظاهره لا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه أقصى ما في الباب أنه جاء هذا اللفظ بمعنى الاستقبال في بعض وجوه الاستعمال على سبيل المجاز إلا أن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة.
وأما الوجه الثاني: فجوابه أن التحمل مخصوص في عرف القرآن بالتكليف، قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات} [الأحزاب: 72] إلى قوله: {وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72] ثم هب أنه لم يوجد هذا العرف إلا أن قوله: {لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} عام في العذاب وفي التكليف فوجب إجراؤه على ظاهره أما التخصيص بغير حجة فإنه لا يجوز.
وأما الوجه الثالث: فجوابه أن فعل الشيء إذا كان ممتنعًا لم يجز طلب الامتناع منه على سبيل الدعاء والتضرع ويصير ذلك جاريًا مجرى من يقول في دعائه وتضرعه: ربنا لا تجمع بين الضدين ولا تقلب القديم محدثًا، كما أن ذلك غير جائز، فكذا ما ذكرتم.
إذا ثبت هذا فنقول: هذا هو الأصل فإذا صار ذلك متروكًا في بعض الصور لدليل مفصل لم يجب تركه في سائر الصور بغير دليل وبالله التوفيق. اهـ.